انهيار السودان- هل المؤسسات أم القادة؟ نظرة نحو المستقبل

"(هل نستطيع أن نضع القوانين فوق القادة والمبادئ فوق الرجال؟)".. هكذا تساءل سيمون بوليفار مستفسرًا عن أسباب تأخر أمريكا اللاتينية وتقهقرها.
هذا الاقتباس المأثور عن الرئيس الفنزويلي الراحل يشكل فاتحة ملائمة للإجابة عن التساؤلات المتعلقة بالتخلف والإخفاق الذي تعاني منه بلادنا، السودان. ففي هذه اللحظة الحرجة، لم يعد السؤال المطروح هو "هل فشلنا؟"، بل "كيف يمكننا تدارك إخفاقاتنا الوطنية المؤلمة، والتطلع نحو مستقبل مشرق، واللحاق بركب الحضارة والتقدم؟"، وذلك بعد أن نستعيد زمام الدولة من براثن الفشل الذي أفضى بنا إلى حرب شاملة مدمرة، وواقع مرير من اللجوء والنزوح القسري، وتوقف عجلة الإنتاج والتنمية، بل ووضع البلاد بأكملها على حافة المجهول ومزلق فقدان الطمأنينة والاستقرار العام.
إن المدخل الأمثل والسبيل الأسلم للنظر نحو المستقبل الزاهر يكمن في الاعتراف الصريح والواضح بالمخاطر الجسيمة التي تحيق بالوطن، والإقرار بأننا، كنخبة سياسية واجتماعية بمختلف مؤسساتها وهيئاتها، السبب المباشر والرئيسي في النتائج الكارثية التي وصلنا إليها. ومن ثم، لا بد من امتلاك قناعة راسخة ويقين ثابت بأن النهوض بالوطن وانتشاله من محنته الراهنة، ومعالجة إشكالياته المتراكمة والمتوارثة، هو واجب مقدس وفريضة حتمية على عاتق الجميع. إذ لا يوجد بديل آخر سوى العمل الدؤوب والجهد المضني لاستعادة الدولة وبنائها من جديد على أسس متينة وقواعد سليمة هذه المرة.
لقد أضافت الحرب الدائرة حاليًا تحديًا بالغ الخطورة إلى التحديات العسيرة المتراكمة التي تواجه بناء النهضة الوطنية المنشودة. كما أن آثارها المدمرة، المتمثلة في انتشار السلاح على نطاق واسع خارج سيطرة الجهات النظامية المخولة، وتفشي خطابات الكراهية البغيضة والتحريضية، فضلًا عن التدمير الممنهج والمتعمد لمقومات البناء والتنمية، تضع أعباء ثقيلة وهمومًا جسيمة على كاهل التيار الوطني المسؤول عن الاضطلاع بمهام إعادة الإعمار والنهضة.
ومما لا شك فيه أن نقطة البداية الصحيحة تنطلق من الإجابة الجريئة والصريحة عن السؤال المحوري: "لماذا أخفقنا في بناء دولة مستقرة ومزدهرة طوال عهد الحكم الوطني الممتد لسبعة عقود؟ وما هي العلة الجوهرية والسبب الرئيسي الذي أبقانا في منطقة التخلف والجمود، وفي دائرة الفشل والإخفاق المستمر؟"
في الواقع، يرى أبوالقاسم حاج حمد أن هنالك سببان رئيسيان: الأول يتعلق بالتركيب الجغرافي السياسي المعقد، والثاني بالتركيب الاقتصادي الهش. ولكن، من أجل استخلاص العبر والدروس، وتوسيع نطاق البحث والدراسة، واقتراح الحلول الممكنة والناجعة، ننقل سياق هذه الأسئلة المصيرية إلى فضاء أرحب وأوسع؛ لنتعرف على فلسفة النهضة والازدهار، والفشل والانحدار في مسيرة الأمم والشعوب وتجاربها المختلفة. فقد قدمت التجارب المتنوعة عبرًا جمة ونماذج وافرة، وهناك نظريات علمية رصينة كانت سببًا جوهريًا في قصص النجاح الباهرة، ومعيارًا دقيقًا لمعرفة أسباب الفشل الذريع.
النظم والمؤسسات هي الأساس
في العام المنصرم 2024، أعلنت جائزة نوبل المرموقة فوز الأكاديميَين المتميزَين؛ دارن عاصم أوغلو، وجيمس روبنسون بجائزة نوبل للاقتصاد عن كتابهما القيّم والثمين "لماذا تفشل الأمم؟ أصول السلطة والازدهار والفقر". وبعد دراسة مستفيضة وتحليل معمق، يخلص الكاتبان إلى أن النظريات الشائعة، مثل: الموقع الجغرافي للدولة، وثقافة المجتمع، والدين السائد، ومستوى التعليم، ليست السبب الحقيقي في أصول الفقر والتخلف لدولة ما. وتوصلا إلى نتيجة مفادها أن الدول تتفاوت وتختلف في حجم نجاحها وتفوقها الاقتصادي، بسبب اختلاف مؤسساتها الراسخة والقواعد والنظم المحكمة التي تؤثر بشكل مباشر في الطريقة التي تعمل بها تلك النظم والمؤسسات.
وبما أنّ الدولة الحديثة تقوم في جوهرها على النظم والمؤسسات، فإن هناك طريقتَين متباينتَين لتكوين وعمل هذه النظم الحديثة. فبالمقابل للمؤسسات السياسية الشاملة والمنفتحة التي تعمل جاهدة على توفير مجال مشاركة متكافئ وعادل لجميع المواطنين، عبر توفير أقوى الضمانات لحماية الملكية الخاصة، وجعلها مصونة وآمنة (بحيث لا تتغول عليها لجنة حكومية أو هيئة بيروقراطية)، وسن نظام قانوني محايد ومنصف، وإنشاء نظام تعليمي متطور تتحاشى مناهجه الدعاية السياسية المضللة، وتعمل بجد على إنتاج المعرفة العلمية القائمة على التكنولوجيا الحديثة والتحفيز المستمر، وتشجيع المنافسة الحرة النزيهة.
في المقابل تمامًا، تختار بعض النخب السياسية والاجتماعية أن تبني نظمها على نموذج "المؤسسات السياسية الاستحواذية" التي تقوم ثقافتها على ترسيخ السلطة السياسية المطلقة في يد نخبة محدودة ومنغلقة، غالبًا، على أيديولوجيا ضيقة الأفق، أو مستندة إلى أسس جهوية وقبلية ضيقة. وفي كلتا الحالتين، تبدع هذه النخب في وضع القيود والضوابط الصارمة على المجتمع؛ للحد من حريته وحركته، بينما تعمل في الوقت نفسه على تكديس الثروة والنفوذ في نطاقها السياسي والمجتمعي الضيق، وتقوم بتوظيف الموارد المتاحة؛ لتدعيم سلطتها الاستحواذية عبر بناء الترسانات الأمنية الضخمة، بدلًا من بناء مؤسسات التعليم والاستنارة التي تنير العقول وتوسع المدارك.
إن المشكلة الرئيسة والأساسية التي عانى منها السودان على مر العقود، وكانت سببًا رئيسيًا في عدم الاستقرار السياسي المزمن، وفي استمرار الحروب والصراعات الأهلية الدامية، هي هشاشة الدولة وضعفها؛ نتيجة لضعف ثقافة بناء النظم والمؤسسات القوية والراسخة التي تعمل كممسكات للمجتمع والدولة على السواء، ويعزى السبب الرئيسي في ذلك إلى عدم التراضي والاتفاق على مشروع وطني جامع وشامل فور الاستقلال؛ نتيجة لتفشي الخلافات الذاتية العميقة، وسيطرة داء التعصب البغيض الذي – كما يقول المفكر الراحل منصور خالد – "لا يفسح أية مساحة للقاء مع الآخر المختلف، بل يدفع صاحب الرأي الذي لا يقبل الجدل إلى قمع الآخر وإقصائه".
ويرى المحامي القدير أحمد خير أن الأرستقراطية الدينية والثقافية كانت عاملًا مهمًا من عوامل بناء النظم الوطنية بعد الاستقلال، "وهو ما عرّض جهازنا الحكومي لشر أنواع الأمراض الاجتماعية المستعصية، وعرّض التجربة الديمقراطية الناشئة للدكتاتورية البرلمانية المقيتة". هذه الأدواء الباكرة والعلل المبكرة هي التي وسمت السياسة السودانية بميسمها القاتم حتى تمكنت من مفاصلها الحساسة وخطابها العام، فأنتجت عقلًا إقصائيًا تدميريًا هدفه الأساسي هو "إما أن يكون الحكم لنا جميعًا، أو لا يكون لأحد".
ولذلك، لم يكن مستغربًا على الإطلاق موقف الزعيم الأزهري الراحل من الجمعية التشريعية التي كونها الحاكم العام الإنجليزي في خواتيم الحكم الثنائي الإنجليزي المصري للسودان، لما رأى أن فكرة الجمعية التشريعية قد جاءت من خصمه السياسي اللدود، فكان رفضه القاطع لها ليس بسبب قضايا موضوعية جوهرية، واختلاف حول نقاط محددة يمكن أن تكون محلًا للنقاش والتداول، ولكنه أوصد الباب بقوة وعنف، مقررًا بكل تصلب وتعنت "لن ندخلها ولو جاءت مبرّأة من كل عيب وشائبة".
ولعمري، فإن أي قفزة حقيقية وفاعلة نحو المستقبل المشرق تحتاج أولًا وقبل كل شيء إلى إصلاح شامل وجذري للبيئة الفكرية العامة؛ لأنها الأساس المتين واللبنة الأولى في إنتاج العقول المستنيرة والمتسامية فوق الخلافات الحزبية الضيقة والصغيرة، والنفاذ إلى النفع العام والمصلحة العليا للوطن، حتى ولو خالف ذلك هوى الفرد وانتماءاته الأخرى.
التغيير من الأعلى ضمان أكيد للنجاح
لقد انهارت وتلاشت كل التجارب الانتقالية الهشة نحو الديمقراطية في السودان، في الوقت الذي تشهد فيه القارة الأفريقية السمراء توجهًا متزايدًا نحو التحرر والانعتاق من الإرث الدكتاتوري البغيض والقديم، وتؤسس لتجارب ديمقراطية واعدة تسير بخطى ثابتة نحو الاستقرار والنمو والازدهار.
وبنظرة سريعة وفاحصة لبلدان أفريقية رائدة، مثل: غانا، السنغال، وحتى نيجيريا، وكينيا بكل المآخذ والانتقادات التي يمكن ملاحظتها على تجاربها الانتخابية، نجد أن العوامل المشتركة في التمسك بالتطور الديمقراطي المطرد تتلخص في التخلص التام من النظم والأفكار التقليدية الجامدة والقديمة، والسعي الجاد لبناء نظم جديدة قائمة على سيادة حكم القانون، واحترام أحكام القضاء النزيه، وبناء منظومة قيم نبيلة تحترم الكرامة الإنسانية الرفيعة، وحرية التعبير والتنظيم السلمي، وقبل ذلك بناء علاقة متوازنة ووطيدة بين القوى المدنية الفاعلة والمؤسسة العسكرية العريقة.
ونتيجة لهذا التوجه السليم والمسار القويم، نجد أن بلدًا مثل غانا، حيث استقرت فيه ولحد بعيد، تجربة الانتخابات الدورية وتغيير الرؤساء بصورة سلمية ومنظمة، يشهد نموًا اقتصاديًا مزدهرًا ومتصاعدًا، إذ وقفت نسبة البطالة عند مستوى متدنٍ بلغ 5% فقط، بينما تتوفر البلاد على احتياطي نقدي أجنبي ضخم بلغ في العام الماضي وحده 7 مليارات دولار أمريكي.
وما يجعل هذه التجربة الغانية جديرة بالدراسة والتأمل العميق أنها قامت على نموذج التحول من الأعلى، حيث تكون الدولة هي صاحبة مشروع التغيير والتحول الديمقراطي الجذري والكامل. وقد قاد الجنرال جون رولينجز الراحل البلاد بحكمة واقتدار نحو الحرية والانعتاق بعد التوافق مع المعارضة السياسية على عملية سياسية شاملة تستوعب كافة المكونات السياسية والاجتماعية، وتستبعد الأيديولوجيات الإقصائية المتطرفة، مع التعهد الصريح والواضح بخروج المؤسسة العسكرية من العمل السياسي نهائيًا واحترام الدستور والقانون.
في المقابل، كانت واحدة من أهم أسباب الفشل المتكرر للتجارب الانتقالية في السودان أنها اعتمدت بشكل أساسي على نموذج التحول من الأسفل، الذي تحاول فيه الجماهير فرض إرادتها وتطلعاتها على مؤسسات الدولة عبر الثورات والانتفاضات الشعبية العارمة. وهذا الخيار محفوف بالمخاطر وعواقبه غير مضمونة على الإطلاق، ونتائجه السلبية بادية للعيان في تجاربنا الفاشلة التي انتهت في نهاية المطاف إلى التنازع والصراع المرير بين مؤسسات الدولة المختلفة، وبين القوى السياسية التي تريد التغيير المنشود، ولكنها في الغالب الأعم لا تملك له تصورًا واضحًا وقابلًا للتطبيق على أرض الواقع، ولا روحًا استيعابية جامعة تضمن بها انطلاق حوار وطني شامل ومثمر يستولد الحلول الواقعية والعملية؛ لإكمال الفترة الانتقالية الصعبة والوصول بها إلى أهدافها النهائية المنشودة.
الديمقراطية هي الحل، لا الأيديولوجيا
تحتاج النخبة السياسية السودانية بجميع توجهاتها وانتماءاتها المختلفة إلى أن تتخلّص تمامًا من أفكارها الشمولية ومشاريعها الأيديولوجية الضيقة، فتلك ثقافة بالية عفا عليها الزمن وتجاوزها العالم المتحضر منذ أمد بعيد. كما أنها بحاجة ماسة إلى اعتناق عقيدة التغيير نحو الأفضل والارتقاء بمستوى الوطن والمواطن.
ومن أهم أركان تلك العقيدة الراسخة احترام الكرامة الإنسانية المصونة، وإطلاق الحريات الكاملة للمجتمع، والسعي الدؤوب لبناء دولة القانون والمؤسسات، ومن ثم الشروع الفوري في بناء المؤسسات القائمة على المهنية والكفاءة والحياد التام، والتأمل مليًا في التجارب السابقة المريرة، وآخرها تجربة الانتقال المتعثرة التي انتهت إلى الحرب والاقتتال الداخلي حين سيطرت عليها العقليات الإقصائية المتطرفة، والفكر الشمولي المتصلب، والنزعة التسلطية الانتقامية، بدلًا من إعلاء روح التصالح الوطني الشامل واحترام القانون، والاهتمام الجاد ببناء الآليات الديمقراطية الراسخة التي تحمي مسيرة الانتقال الديمقراطي وتحصنها، وتحدّ من سلطة الأفراد لصالح المؤسسات المستقلة والقوية.
لقد تم كل ذلك وسط تدخل أجنبي سافر وكثيف بأجندات خبيثة وماكرة، وجدت لها نصيرًا ومعينًا في الصف الوطني. ولذلك، فإن هذه النخبة السياسية تحتاج إلى أن تتذكر دائمًا أن حماية سيادتنا الوطنية هي واجب مقدس ومطلب ملح، وفي الوقت نفسه نحن في أمسّ الحاجة إلى الالتفات الجاد لقضايانا الداخلية الملحة والملحة، "ففيها من التحديات الجسام ما يكفينا ويزيد".
ومن الواجب علينا أيضًا إنتاج مفهوم جديد وواضح للعلاقات الخارجية يقوم على القيم الإنسانية النبيلة والمصالح البشرية المشتركة التي تنشد التصالح والتسامح، وتعمل بجد على تحقيق السلام والتعايش السلمي مع الآخرين على أساس المصالح المتبادلة، والتطلع الدائم نحو مستقبل مشرق للأسرة الإنسانية جمعاء وأمنها وسلامتها واستقرارها.